فصل: العامل الخامس: تفرغ بعض الصحابة ومن بعدهم لحفظ القرآن وضبطه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.العامل الثالث: الأمر بتعهد القرآن والتحذير من نسيانه:

وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وكل من يجيء من الأمة بعدهم بتعهد القرآن وممارسة قراءته حتى لا يتفلت منهم، وضرب لهم في ذلك المثل النوابغ، والكلم الجوامع الزواجر.
ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها».
ويزيد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر توضيحا فيقول: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقّلة إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» رواه الشيخان وفي الأمر بالتعهد والمواظبة عليه تحذير من نسيانه أو ذهابه.
وقد جاء الترهيب من نسيان القرآن أو في شيء منه وذم من يهمل حتى ينساه وذلك في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه منها إلا عدله. وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم » ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعا «من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم» قال الحافظ وفي إسناده مقال.
وروى أبو عبيد بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة والبعرة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أكبر من آية أو سورة من كتاب الله أوتيها رجل فنسيها».
وروى أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبي داود، عن ابن جريج، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن، أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها»، قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذاكرت به البخاري فاستغربه.
وقال الحافظ في الفتح: في إسناده ضعف. ولكن إيراده له في الفتح، وإيراد ابن كثير له في كتاب فضائل القرآن يدل على أنه ضعف محتمل يحتج به في مثل هذا.
«نسيان القرآن كبيرة»: وقد اعتبر كثير من السلف نسيان القرآن كبيرة من الكبائر لما قدمنا من الأحاديث وغيرها. وقد أخرج أبو عبيد رحمه الله من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه؛ لأن الله يقول: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ونسيان القرآن من أعظم المصائب.
وروي عن أبي العالية موقوفا، أي: عليه «كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه». قال الحافظ ابن حجر:
وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن، كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا.
قال ابن كثير: وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى} وهذا الذي قاله هذا وإن لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه؛ فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان، وعدم الاعتناء فيه تهاون كبير وتفريط شديد نعوذ بالله منه، ولهذا قال عليه السلام: «تعاهدوا القرآن»، وفي لفظ «استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم...» أي: أن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من غير عقال، ثم قال: ولهذا قال إسحاق بن راهويه وغيره: يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوما؛ لا يقرأ فيها القرآن، كما يكره له أن يقرأه في أقل من ثلاثة أيام.

.العامل الرابع: ارتباط بعض الوظائف الدينية والدنيوية بحفظ القرآن:

الإمامة في الصلاة بجميع أنواعها من المناصب الدينية الهامة، ولا يتولاها إلا أولوا الفقه والعلم، والفضل، وقد كانت وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، ولم يتولها أحد في حياته إلا بإذن منه أو باستخلاف إذا سافر أو خرج في غزوة أو نحوها، وكذلك تولى الإمامة في الصلاة الخلفاء الراشدون من بعده رضوان الله عليهم، وتولاها الولاة، والأمراء في الأمصار، والأقاليم، وكذلك تولاها أمراء المؤمنين بعد الخلافة الراشدة.
وقد كان حفظ القرآن، واستظهاره، وإجادته، والعلم به، والتفقه فيه المرشح الأول لهذا المنصب الديني الخطير، فكان الأحق بها أقرأ الناس لكتاب الله.
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما- أي إسلاما- ولا يؤمّن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» قال الأشج في روايته مكان سلما: «سنا» أي: أكبرهم سنا.
وكذلك كان حفظ القرآن وفقهه من الأسباب المرشحة لتولي الإمامة العظمى كالصديق أبي بكر، والولاية والقضاء، وقيادة السرايا، والجيوش كأبي موسى الأشعري، وسالم مولى أبي حذيفة، وقد كان يحمل اللواء يوم اليمامة، فقيل له: إنا نخاف أن نؤتى من قبلك!! فقال هذه الكلمة التي تنم عن إيمان عميق، وقوة حفظ وفقه للقرآن الكريم: بئس أنا حامل القرآن إذًا.
نعم- والله- فما كان لحامل القرآن من أمثال سالم رضي الله تعالى عنه أن يفر، أو ينكص على عقبيه، أو لا يرغب عن الشهادة، وقد صدق فيما عاهد الله عليه فصار يتقدم باللواء، ويقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره، فاحتضنه بعضديه وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...} وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 144- 146].
وهكذا كان حفاظ القرآن وقراؤه، لقد كانوا أسبق الناس إلى نشر دعوة الإسلام، وأرغب الناس في الجهاد، والاستشهاد، وأهل البطولات والتضحيات والفداء، وما كان حفظ القرآن ليمنعهم من الخروج في السرايا والغزوات.
فأصحاب بئر معونة كانوا من القراء، وقد استشهدوا جميعا في سبيل الله بنفس راضية، فلا تعجب إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حزن عليهم حزنا شديدا، حتى لقد مكث شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية وهي القبائل التي غدرت بهم، وليس أدل على رضائهم بالشهادة مما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى القراء قال: «إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم، فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك، ورضيت عنا، فأخبرهم عنهم فأنزل الله فيهم قرآنا كان يتلى: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». ثم نسخ بعد.
وحتى بعد الوفاة كان الفضل والتقدمة لحفاظ القرآن، وقرائه، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة من شهداء أحد في قبر واحد، وكان يسأل: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» أي: حفظا له فيقدمه في اللحد، رواه البخاري، فمن ثم عني المسلمون عناية فائقة بحفظ القرآن وإجادته، فقد كان وسيلة من الوسائل للدرجات الدينية، والدنيوية، وقد روى الفاروق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» رواه مسلم.

.العامل الخامس: تفرغ بعض الصحابة ومن بعدهم لحفظ القرآن وضبطه:

وقد تفرغ لحفظ القرآن، والتفقه فيه أناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الصفة وهم أضياف الله، وأضياف الإسلام، كانوا يحتطبون بالنهار، ويقومون الليل ويقرءون القرآن ويحفظونه، ويتدارسونه، ويعلمونه غيرهم، ولم يكونوا رضوان الله عليهم كسالى ولا خاملين، ولا ينأون بأنفسهم عن العمل والكدح كما يزعم بعض المتخرصين عليهم، وإنما كانوا إذا وجدوا عملا عند أحد عملوا، وإذا لم يجدوا احتطبوا، وأطعموا إخوانهم، وجعلوا همهم حفظ القرآن، وأعدوا أنفسهم للجهاد، فكان إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد لبوا سراعا وليس هذا قولا حملني عليه حبهم، أو الدفاع عنهم وإنما هو ما جاءت به الروايات الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما، قصدت تجليته للرد على هؤلاء الذين يشنعون بهم، ويتجنون عليهم.
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال:.... وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل، ولا مال، ولا إلى أحد، إذا أتته- أي: النبي صلى الله عليه وسلم- صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها، وكان أبو هريرة منهم.
وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط عند ابن سعد: كان أهل الصفة ناسا فقراء، لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره.
وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع...» الحديث.
وفي صحيح البخاري أيضا، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رعلا، وذكوان، وعصيّة، وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم، وغدروا بهم.
وفي رواية ثابت عند مسلم: ويشترون الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن. وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة قال: رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء قد ربطوا- أي الأكسية- في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة، وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي، والسلمي، والحاكم، وأبو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر؛ وفي بعض ما ذكروه اعتراض ومناقشة، لكن لا يسع هذا المختصر تفصيل ذلك.
وقال في موضع آخر من الفتح: ولم أقف على عددهم- يعني أهل الصفة- إذ ذاك وقد تقدم في أبواب المساجد، في أوائل كتاب الصلاة من طريق أبي حازم عن أبي هريرة: رأيت سبعين من أصحاب الصفة...
الحديث وفيه إشعار بأنهم كانوا أكثر من ذلك وذكرت أن أبا عبد الرحمن السلمي، وأبا سعيد بن الأعرابي، والحاكم اعتنوا بجمع أسمائهم، فذكر كل منهم من لم يذكر الآخر، وجمع الجميع أبو نعيم في الحلية، وعدتهم تقرب من المائة، لكن الكثير من ذلك لا يثبت وقد بين كثيرا من ذلك أبو نعيم، وقد قال أبو نعيم: كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال، فربما اجتمعوا فكثروا، وربما تفرقوا إما لغزو، أو سفر، أو استغناء، فقلوا، ووقع في عوارف السهروردي أنهم كانوا أربعمائة.
أقول: والذي يظهر أنهم كانوا كثيرين، وأنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب اختلاف الأحوال كما قال أبو نعيم.
ومهما يكن من شيء فقد كان أهل الصفة ثروة عظيمة للقرآن الكريم وكانوا ركائز ودعائم لحفظ القرآن، وإشاعته، ونشره بين المسلمين، كما كانوا جند الله، وجند الإسلام، كلما سمعوا هيعة طاروا إليها، وهكذا تبين أنهم برءاء مما رموا به وكذلك كان المشتغلون من الصحابة بزراعاتهم، وتجاراتهم شديدي الحرص على الوحي، ولاسيما القرآن، وحفظ ما نزل منه؛ روى البخاري في صحيحه عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد- أي: ناحية- وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي، وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك... الحديث.
وهكذا نجد أنهم ما كان يشغلهم دينهم عن دنياهم، ولا تشغلهم دنياهم عن أمور دينهم، وحفظ كتاب ربهم، وسنة نبيهم، ولا عجب فهم رأس الأمة الخيرة، الوسط.
وقد اشتهر بإقراء القرآن من الصحابة سبعة: عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، كما ذكر الذهبي في طبقات القراء.